️ إبراهيم الأمين – الأخبار
ليس بين سياسيينا من يتسم بولع رئيس الحكومة نواف سلام نفسه بالنكد. فبدل أن يستفيد جدياً من تجربة الشهرين الماضيين لفهم حقيقة البلاد وتوازناتها، يصرّ على أنه خارج هذا المنطق، ويكثر الحديث عن القانون والدولة والسلطة المركزية، بكلام لا يتوافق على الإطلاق مع أفعال حكومته. فالرجل لا يسمع مطلقاً صوت الناس في لبنان، ويكتفي بالحديث عن الإصلاحات مع نفسه. وإذا تجرأ أحد على سؤاله عنها، يحيله فوراً إلى طلبات المجتمع الدولي، وأنها طلبات لا يمكن تجاهلها. لكنه مستعد لتجاهل ما يريده اللبنانيون. والمعضلة اليوم باتت في البحث عن أي شخص يمكن أن يتحدث معه ويعينه في إدارة ملفاته واتخاذ قراراته.
السرور الذي يبدو وكأنه يغمره عند استقبال وفود شعبية في مكتبه ليس «أصلياً». فهو ليس ولداً «يؤكل رأسه» بحركات من هذا النوع. لا هو يُحب الناس بهذه الهيئة، ولا يشعر الناس بأنه واحد منهم. والجميع يدركون أنها مجاملات اللحظة السياسية، وأن الآمر الخارجي، الذي شكّل الحكومة، هو نفسه من يحدد الزيارات وأسماء الوفود وحتى ما يُقال أمام رئيس الحكومة.
يتصرف سلام اليوم على أساس درس جديد استخلصه من تجربة الشهرين الماضيين، وتحديداً الشق المتعلق بعلاقته مع رئيس الجمهورية جوزيف عون. يعلم سلام تماماً أن عون لا يحبه، وأنه كان يفضّل نجيب ميقاتي عليه. لذلك، إن وجود مرجعية خارجية واحدة للاثنين لم يعد كافياً لإدارة علاقة سلسة بينهما. وحتى التفاهم الضمني العميق حول ملف حصرية السلاح لا يكفي لتوليد مقاربة واحدة.
علاوة على ذلك، تختلف طريقة الرئيس عون في الإدارة جذرياً عن أسلوب سلام. فرئيس الجمهورية لا يزال قائداً عسكرياً في مقاربته: يفضّل قلة الكلام والنقاش، ويطلب من الجالسين أمامه تنفيذ الأوامر – القرارات، بينما رئيس الحكومة، المفترض أنه محامٍ وقاضٍ، يتوقع من عون أن يهتم بما يصطلح على تسميته بـ«المذاكرة»، أي الصبر والأناة في نقاش كل نقطة وكل بند قبل اتخاذ القرار. ومع الوقت، قد يجد سلام نفسه مضطراً إلى مواجهة أمور شديدة الحساسية تهدد السلم الأهلي فعلاً لا مجازاً، بعدما تحول إلى قائد عسكري، بينما يحاول عون تلبّس دور السياسي.
ما نلاحظه من سلوك رئيس الحكومة في ملف الذكرى السنوية لاستشهاد السيد حسن نصرالله لا يعطي صورة مريحة عما يمكن أن يقوم به الرجل، إذ يظهر استعداداً للسير إلى أبعد الحدود في ما يعتبره القرار «الأخير والنهائي» بحل حزب الله كله، وليس نزع السلاح فقط. ولو أمكنه، لخاض معركة نزع الشرعية الشعبية عن المقاومة.
ولنأخذ مثلاً حديثَه عن ملف الإعمار. فهو لا يكتفي بالتبرم من السؤال عما تقوم به الحكومة، بل يذهب فوراً إلى انتقاد سلوك حزب الله، متهماً إياه بتبييض الأموال لمساعدة الناس. إذ يعتبر الالتفاف على العقوبات الأميركية تبييضاً للأموال. وقد يخرج علينا غداً ليقول إن هذه الأموال مصدرها تجارة المخدرات، كما قررت السعودية التي لا تجرؤ على كشف أسماء كبار الأمراء من العائلة الحاكمة من المتورطين في عمليات تجارة المخدرات القادمة من لبنان وسوريا والأردن.
لم تعد المسألة في إصرار رئيس الحكومة على النكد بل في عدم خروج أصوات عاقلة تقنعه بأن ما يقوم به يمسّ السلم الأهلي ومآله الفشل لا الفتنة
رئيس الحكومة هنا لا ينتبه، ولا يبدو مهتماً أصلاً، بشرح سبب عدم قدرة حكومته على تحمّل مسؤوليتها في مساعدة المواطنين المتضرّرين من الحرب. وعندما يُطرح الموضوع أمامه، يرد بمعزوفة من لحنَين: عدم توافر الأموال، وربط أي مال بالسلاح.
وهو لا يكلف نفسه عناء طلب مجرد اجتماع واحد مع وزراء الداخلية والدفاع والمالية والأشغال، لمناقشة بند بسيط وعادي، يقتصر على كيفية تأمين الأموال من الموازنة العامة أو من الحساب الرقم 36، أو عبر استخدام موجودات وأصول هذه الوزارات، لترميم نحو سبعة آلاف شقة، يحتاج كل منها أقل من 20 ألف دولار، ما يُعالج مشكلات نحو أربعين ألف لبناني، ويخفف عنهم عبء النزوح والتشرد، ويبدو مصمماً على عدم القيام بهذه المهمة، ولو قامت الدنيا ولم تقعد.
عندما يتملّك الكيد شخصاً كنواف سلام، تسقط كل المعايير لديه. فهو يرى في سحب ترخيص جمعية «رسالات» هدفاً أسمى، كما هو الحال مع مشغلي أجهزة بث الليزر في الروشة. ويتصرف وكأن هؤلاء يشكّلون سلاح المقاومة الذي يجب نزعه. وربما نسي، أو تناسى، أن مئات آلاف اللبنانيين تناوبوا على احتلال ساحة الشهداء، واستخدام تمثالهم، ولم تقم قيامة أحد، ليس خوفاً، بل لأن ما حدث كان أمراً طبيعياً.
فهل يدرك نواف سلام أن الساحات والأماكن العامة هي حقٌّ للناس، مساحة للاستراحة، أو للتنفيس عن التعب والغضب؟ هم لا يعتدون على ملك خاص، بل يستخدمون مساحات لهم فيها نصيب، مثل باقي المواطنين، من دون أن يمنعوا أحداً من استعمال الأماكن العامة. وما حصل لم يسبّب أذى لأحد، ولا ضرراً للملكية العامة، ولا خدشاً للحياء العام.
لم يعد الأمر مجرّد تفنّن في النكد، بل صار يتطلّب موقفاً جدّياً من سلوك نواف سلام في هذا الملف. فرفعُه سقفَ المواجهة مع حزب الله بذريعة ما حصل في الروشة هو محاولة لإحياء تلك القرارات الملعونة الصادرة في 5 و7 آب عبر تحويل النقاش إلى جلسة حكومية تمنحه غطاءً سياسياً. وسلام الذي أحبطته خطّة الجيش التي عُرضت في 5 أيلول الماضي، يريد محاسبة الجيش على عدم مواجهته ناس المقاومة وهم يرفعون صورة لقائدهم الشهيد.
ما يريده نواف فعلياً أن يقود الجيش والقوى الأمنية إلى أي مواجهة مع حزب الله. وهو يتصرّف اليوم وكأنّه يقول للخارج إنه لم يفشل، وأن الشركاء الآخرين لا يقومون بدورهم، بينما رهانه الوحيد هو العودة إلى تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات… إذا سمح الأميركيون والسعوديون بإجرائها في موعدها.
لذلك، ثمة حاجة إلى التدقيق في ما يفعله سلام الآن. وكل صمت عن هذا النزق، هو شراكة في فعل يهدف فقط إلى قيام الفتنة. وعندها سيجمع سلام أغراضه، ويسافر إلى الخارج، ناعياً البلاد، ونافضاً يده من المسؤولية، وشاتماً كل من عارضه خلال توليه الحكومة.
فهل من رجل قادر على إقناع نواف سلام بالتوقف عن كل هذا الجنون؟