لـبـنـان بـلا مـقـاومـة: دولـة بـلا مـسـتـقـبـل

️ عـلـي حـيـدر – الأخـبـار

من الصعب مقاربة موقع المقاومة في التجربة اللبنانية من دون فهم طبيعة هذا البلد ذاته:

تركيبته الهشّة، تاريخه المضطرب، جغرافيته الضاغطة، وغياب الرؤية الموحّدة للأمن الوطني.

لبنان، ككيان، محكوم منذ تأسيسه بتوازنات دقيقة وهشّة في آن، جعلته في أغلب مراحل القرن الماضي عاجزاً عن إنتاج منظومة دفاعية تحمي حدوده، وتضبط أمنه، وتردع من يطمح إلى استباحة أرضه.

هذه الإشكالية التأسيسية هي التي تُفسّر، في جوهرها، حقيقة أن المقاومة في لبنان، حاجة بنيوية وضرورة وجودية…

لا تنفصل عن طبيعة الدولة نفسها، ولا عن واقعها الإقليمي، ولا عن موقعها في خريطة الصراع.

الحديث عن المقاومة في لبنان ليس نقاشاً نظرياً ولا عقائدياً أو عاطفياً أو حزبياً، بل نقاش في صلب النظرية السياسية للأمن الوطني في دولة صغيرة…

تعاني من نقاط ضعف تكوينية في الجغرافيا والديمغرافيا والإمكانات، ضعيفة المؤسّسات، متصدّعة البنية الاجتماعية.

وعائمة على حدود مفتوحة مع عدوّ تاريخي لا يعترف بحدودها ولا بكيانها النهائي.

لذلك، حين نحلّل مسار المقاومة، فإننا لا نحلّل تنظيماً أو قراراً أو قوة مسلّحة.

بل نحلّل حاجة كيان إلى حماية نفسه، وآلية مجتمع لملء الفراغ الذي عجزت الدولة – لأسباب داخلية وخارجية – عن ملئه.

ومن هنا تبدأ الفكرة:
المقاومة ليست مرحلة، ولا خياراً بين خيارات، بل هي في التجربة اللبنانية صيغة حماية، وصمّام أمان، ومدخل لوضع حدّ لزمن الاستباحة.

بهذا الفهم، يصبح السؤال الحقيقي ليس: هل يحتاج لبنان إلى المقاومة، بل: ما الذي يجعل لبنان عاجزاً عن الاستمرار من دونها؟

وهذا السؤال، حين نغوص في عناصره السياسية والتاريخية والأمنية، يقود إلى مقولة مركزية:

إن لبنان غير قادر على الفصل بين زمن للمقاومة وزمن للمفاوضات، لأن موقعه وتركيبته وتهديداته تفرض عليه الجمع بين القوة والديبلوماسية في آن

إذ لا قيمة لأي مسار تفاوضي ما لم يكن مسنوداً بقدرة دفاع حقيقية تحول دون تحوّل التفاوض إلى سلسلة لا تنتهي من الإملاءات.

والتمعّن في تاريخ لبنان الحديث يكشف سريعاً أن هذا البلد لم يعرف يوماً استقراراً نابعاً من قوة الدولة نفسها.

فمنذ الاستقلال، لم يكن الجيش اللبناني قادراً على تشكيل رادعٍ فعّال في مواجهة الأخطار الخارجية، لا بسبب نقص الإرادة.

بل بسبب القيد البنيوي والسياسي والدولي الذي حال دون تطوير قدراته.

وأمام هذا الواقع، كان اللبنانيون يجدون أنفسهم مرة بعد مرة أمام مشهد يعاد إنتاجه:

عدوان إسرائيلي، توغّل أو قصف، عجز رسمي، فراغ أمني، ثم تدخّل شعبي مقاوم يملأ الوظيفة الدفاعية التي يفترض بالدولة أن تؤديها.

هذه الدورة لم تتكرر مصادفة، بل بفعل معادلة ثابتة: الضعف البنيوي للدولة اللبنانية ليس حالة عابرة…

بل سمة هيكلية نابعة من غياب رؤية موحّدة للأمن الوطني، ومن توازنات داخلية لا تسمح ببناء قوة عسكرية قادرة على مواجهة أعتى جيوش المنطقة.

ومن الطبيعي في ضوء ذلك أن تنشأ المقاومة وتتبلور، وتتطوّر، كاستجابةٍ وظيفية لفراغ قاتل.

وهذا الفارق بين المقاومة كفكرة داخل المجتمع، وبينها كمنظومة منظمة، هو ما جعل التجربة اللبنانية مختلفة عن أي تجربة أخرى.

فالمقاومة في لبنان لم تُبنَ على مشروع إسقاط النظام، ولا كانت حركة انقلابية أو ثأرية، بل كانت نتاجاً طبيعياً لبيئة اجتماعية واقعة تحت الاحتلال المباشر.

بمعنى آخر، المجتمع هو المنتج الأول للمقاومة، ثم تؤطر الأحزاب هذا الوعي وتحوّله إلى قدرة عملياتية قادرة على صناعة توازن ما.

ومن هنا نفهم لماذا حظيت المقاومة بشرعية متجذّرة، ولماذا صمدت رغم حملات التشويه والضغط والعقوبات:

لأنها لم تكن وافداً على المجتمع، بل كانت امتداداً لخبرة أهله الذين عاشوا القصف والقتل والتهجير، وأدركوا أن انتظار الدولة كان يعني الاستسلام للأمر الواقع.

لكن التحوّل الحقيقي لموقع المقاومة في وعي المجتمع ووجدانه، لم يبدأ مع ولادتها…

بل مع دفع الخطر الوجودي عنه بتحرير الأرض واستعادة السيادة والدفاع عنه ومنع إعادة احتلاله في أكثر من محطة آخرها حرب عام 2024.

وعلى عكس السردية التي تؤصل لخيار المفاوضات (المباشرة) مع العدو، فإن المخاطر تؤكد حاجة لبنان إلى المقاومة لا العكس.

فلبنان، خلافاً لدول مستقرة ومحصّنة، لا يمتلك رفاهية الانتقال من زمن القوة إلى زمن السياسة. السياسة في لبنان لا تعمل إلا في حضور القوة التي تحميها.

والبلد الذي يدخل المفاوضات (بغض النظر عن الموقف من بعض أشكالها) بلا توازن قوى…

يدخلها كمن يدخل غرفة مغلقة ليوقّع على سلسلة تنازلات لا تنتهي.

فغياب قوة شعبية دفاعية يعني عودة إسرائيل إلى سياسات التوغّل، وتأبيد الاحتلال.

بل توسعه في محطات سياسية إقليمية أو دولية… وتحديد سقف القرار السياسي اللبناني بحدّ السيف.

كما إن غياب المقاومة يعني، تفجّر التناقضات الداخلية التي كانت تُضبط نسبياً بحضور قوة تحمي الحدود وتمنع الانهيار.

فالتاريخ اللبناني يثبت أن العدوان الخارجي كان دائماً يترافق مع شرخ داخلي

وأن المقاومة هي التي حجبت، في مراحل كثيرة، إمكانية انفلات الداخل.

وهو ما يفسر أيضاً جانباً من خلفية الهجمة الشرسة عليها في جبهتها الخلفية.

ولذلك كله، فإن المقاومة ليست جسماً طارئاً يمكن نزعه عند انتهاء الحاجة، لأن «الحاجة» نفسها ليست ظرفية بل دائمة.

فالتهديد الإسرائيلي مستمر، والقيود على الجيش اللبناني ثابتة، والبيئة الإقليمية شديدة الاضطراب، والجغرافيا اللبنانية غير قابلة للتعديل.

من هنا، يصبح استمرار المقاومة ليس رهناً بقرار سياسي، بل رهناً ببنية البلد ذاته.

لا يمكن للبنان، بهذا المعنى، أن يعيش زمنين منفصلين: زمن القوة وزمن التفاوض. ليس لديه رفاهية الفصل بينهما.

فهو بلد يحتاج إلى القوة كي يفاوض. والبلد الذي يدخل المفاوضات من موقع ضعف يخرج منها أكثر ضعفاً.

والبلد الذي يدخلها من موقع قوة يملك هامش حماية لحقوقه وسيادته وحدوده.

خلاصة التجربة اللبنانية، بكل تعرجاتها، تؤكد أن المقاومة ليست مرحلة عابرة، وليست خياراً بين خيارات.

بل ضرورة وجودية فرضتها بنية الدولة وموقعها وخطر العدو.

والمفاوضات ليست بديلاً منها، بل ممارسة لا تكتسب شرعية ولا معنى إلا بقدر ما تكون محمية بظلّ القوة.

ليس هناك حاجة إلى الاستدلال بالتجارب التاريخية لتأكيد بديهية أن كل محاولة لإبعاد القوة عن السياسة، أو للفصل بينهما، تؤدي إلى كارثة.

فلبنان الذي يدخل التفاوض بلا قوة ليس طرفاً، بل موضوع للضغط.

ولبنان الذي يمتلك قدراً من القوة قادر مع التحلي بالإرادة السياسية والشجاعة والانتماء الوطني، على حماية حدّه وحدوده ووجوده.

لذلك، لا يمكن لهذا البلد أن يعيش في زمنين، بل في زمن واحد تتداخل فيه والمقاومة مع السياسة، والقوة مع المفاوضة.

هذا هو قدر الجغرافيا، وحكمة التجربة، ومنطق البقاء.

والمفاوضات التي تُجرى تحت ضغط السلاح الإسرائيلي، محطة جديدة في مسار الانحدار إلى الهاوية.

الخطر الأكبر الذي يهدد لبنان ليس بقاء المقاومة، بل غيابها.

شاهد أيضاً

📂 أسرار الصحف الصادره اليوم الثلاثاء 16/12/2025

🔏 النهار ¶ يردد أكثر من نائب في مجلسه، بأن التأجيل التقني للانتخابات النيابية بات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *