️ مـحـمـد مـهـدي بـرجـاوي – الأخـبـار
عامٌ بعد الحرب، يقف حزب الله أمام مجموعة من التحدّيات التي ستحدّد مسار المرحلة المقبلة.
هذه التحدّيات لم تعد محصورة في آثار المواجهة الأخيرة أو في تداعياتها الاقتصادية والسياسية.
بل باتت جزءاً من معركة أشمل لإعادة تعريف موقع الحزب داخلياً وإقليمياً.
ولعلّ ما قاله الأمين العام الشيخ نعيم قاسم في جردة حساب للعام الماضي خلال إحياء ذكرى استشهاد السيد حسن نصرالله، يشكّل إطاراً واضحاً لفهم اللحظة الراهنة:
الحزب يجد نفسه في مواجهة وقائع جديدة، ويدرك أن المرحلة المقبلة ستفرض عليه التعاطي مع سلسلة من الاستحقاقات الصعبة.
التحدّي الأول: إعادة منظومة الردع وكسر حالة المراوحة
لم يعد التحدّي الأبرز الذي يواجهُهُ حزب الله اليوم محصوراً في جراح الحرب الأخيرة أو في تداعياتها الاقتصادية والسياسية، بل يتجسّد في معركة أكثر عمقاً:
تهدف ضمناً، إلى إعادة بناء منظومة الردع، خصوصاً أن ما هو قائم الآن، تحوّل إلى حال من المراوحة والاستنزاف.
حيث يستفيد العدو من هامش حرية الحركة ليمارس ضربات واستهدافات متقطّعة.
ويمكن للمراقب، أن يلاحظ، من خلال التدرّج الملحوظ في خطابات الشيخ قاسم، أن الحزب يسير بخطى ثابتة، نحو إعادة بناء قدراته، ما يسمح له لاحقاً بالعمل على تثبيت معادلة جديدة.
حتى إن استعجال العدو لإنهاء ملف السلاح، وإصرار الولايات المتحدة على إنجاز المهمة قبل نهاية العام…
يعكسان في مكان ما، فهماً، بأن المقاومة باتت قريبة من لحظة الانتقال إلى فرض وقائع جديدة على الأرض.
ومن باب التقدير والتحليل، فإن بلوغ هذه النقطة الفاصلة، يمكن عندها الحديث عن الانتقال إلى مرحلة جديدة.
بحيث يكون الحزب في وضع يمكنه من إبلاغ من يعنيهم الأمر داخل الدولة أن هناك سقفاً زمنياً محدداً لوقف مسار الاعتداءات
وهي رسالة ستكون مفهومة أيضاً للعدو ودول اللجنة الخماسية.
وكل ما يجري الآن، هو ترجمة لسياسة «الصبر الاستراتيجي» عند الحزب؛ منطلقاً من قاعدة أنه ليس ضعيفاً.
لكنه يراهن على الوقت حتى يكتمل برنامج إعادة البناء وترميم القدرة، ما يسمح للحزب بإرسال إشارة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها أن الوضع الراهن لم يعد مقبولاً، وبالتالي المقاومة لن تتعايش معه.
وزيادةً على البعد العسكري، يرى الحزب أن المعضلة تكمن في غياب الدولة اللبنانية عن أداء وظائفها الأساسية.
بل وتناغمها أحياناً مع الاعتداءات تحت عناوين «الضرورات» و«الضغوط».
فحين يعلن رئيس الجمهورية جوزيف عون نفسه متسائلاً ونافياً في الوقت نفسه: «هل من خيار آخر؟»
فإن الرسالة بالنسبة إلى الحزب واضحة: رأس الدولة يسلّم بالعجز ويُقرّ من دون أن يقصد بأن المواطن هو من عليه أن يجترح الحلول بدلاً من السلطة.
هذا الغياب أو هذه الاستقالة من الواجبات هما بالضبط اللذان أسّسا لوجود المقاومة منذ البداية، كونها ولدت بديلاً عن غياب الدولة.
وهذا ما يعزّز سردية الحزب، التي تقول بأنّ مقاومة إسرائيل ليست خياراً إضافياً، بل هي نتيجة مباشرة لانكفاء الدولة وتخلّيها عن دورها السيادي.
ولوجود قناعة راسخة لدى الحزب بأنه حتى ولو تولّدت الإرادة لدى الدولة فإنها غير قادرة على حماية لبنان بمفردها نتيجة طبيعة تركيبتها ونوعية قدراتها المالية والتسليحية فضلاً عن آليات اتخاذ القرار فيها.
التحدّي الثاني: كسر قرارَيْ 5 و7 آب
يشكّل كسر قرارَيْ 5 و7 آب لحكومة نواف سلام، تحدّياً جوهرياً أمام حزب الله، من زاوية الخطاب السياسي الداخلي.
القراران يهدفان إلى تقييد حركة الحزب ولهما وظيفة ضرب سردية المقاومة، ما يجعل الأمر شبيهاً بقرار 5 أيار 2008، الذي شكّل محطة فاصلة لم يقبل الحزب حينها أي مساس به.
وهناك مؤشّرات قوية، تؤكد أن قرار كسر القرارين لم يعد مجرّد احتمال تكتيكي، بل تحوّل إلى قرار مؤسّسي داخل الحزب، مُدرج بوضوح على جدول أعماله.
كون الحزب ينظر إلى هذه الخطوة بوصفها جزءاً من معركة أوسع لإعادة تثبيت قواعد الردع، وكأنها شرط لا بد منه للانتقال إلى مرحلة جديدة.
لكنّ المرونة عند حزب الله كبيرة في هذا المجال، ويمكن الاستنتاج من سلوك الحزب ومواقفه، أنه مستعدّ لتحويل ملف السلاح، إلى قضية سياسية مفتوحة، ما يتيح له فضح تناقضات خصومه
إذ كيف يمكن التمسك بـ«الحصرية» بينما الدولة نفسها تُعلن عجزها أو تبرّر رضوخها للضغوط تحت مسمّيات الضرورة؟
هذا الطرح يتيح للحزب إعادة تذكير جمهوره والبيئة الوطنية الأوسع بأن المقاومة وُلدت نتيجة غياب الدولة وتخلّيها عن واجباتها.
وبهذا، يوجّه الحزب رسالته إلى الداخل والخارج على حدّ سواء: السلاح ليس موضوعاً للتنازل أو التفاوض…
بل ركيزة وجودية؛ والقرارات التي تستهدف تقويضه لن تمرّ كما لم تمرّ سابقاً.
التحدّي الثالث: حفظ البيئة والإعمار
يشكّل ملف إعادة الإعمار اختباراً إنسانياً وسياسياً واستراتيجياً في آنٍ واحد.
فأي حصار أو ضغط يستهدف بيئة الحزب الاجتماعية لا يقف عند حدود التجريد الاقتصادي.
بل يسعى أيضاً إلى تأليب هذه البيئة عليه سياسياً، وتحويل معاناة الناس إلى ورقة ضغط تقوّض شرعيته.
أمام هذا الواقع، يضع الحزب إعادة الإعمار على رأس أولوياته، ليس بوصفها خياراً انتخابياً أو دعائياً.
بل هي التزام كامل تجاه من وصفهم دائماً بأنهم «أهلنا» و«بيئتنا».
وفي المقابل يذكّر الحزب بأن الدولة بكل أركانها — بدءاً من رئيس الجمهورية والتزامه في خطاب القسم، ومروراً بالحكومة وبيانها الوزاري — هي المسؤولة دستورياً عن حماية المواطنين وتنفيذ برامج الإعمار.
ومع ذلك، لا يتردّد الحزب في تحمّل جزء من العبء عملياً عندما يرى تقاعساً يطاول حاجة الناس الملحّة.
إذ يواصل جهود الإيواء والإغاثة ويستفيد من قنوات تمويلية متعدّدة، لإيصال الموارد إلى المتضرّرين.
وفي هذا المجال، تُسجّل مفارقة، أن العمل الإنساني يصبح بدوره ساحة مواجهة مع العدو، إذ يرى فيه وسيلة للحفاظ على نسيجه الاجتماعي وعلى قدرته على الصمود.
التحدّي الرابع: الحفاظ على المعادلة الذهبية
تشكّل معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» أحد أعمدة السردية الدفاعية التي يتمسّك بها حزب الله منذ ما بعد حرب تموز 2006
وهي اليوم موضع تحدٍّ جديد بفعل محاولات استدراج الجيش إلى موقع مواجهة مع المقاومة.
هذا المسار برز من خلال الضغوط السياسية التي تسعى إلى تحميل المؤسسة العسكرية أعباءً لا تنسجم مع دورها الوطني.
من جانبه، يهدف الحزب، إلى تحرير الجيش من الضغط السياسي ومساعدته عبر التعاون، لا الدخول في صدام معه.
وقد نظر الحزب بارتياح إلى وعي قيادة الجيش في أكثر من محطة، خصوصاً حين قامت هي بإبلاغ السلطة السياسية باستحالة تنفيذ قرارَيْ 5 و7 آب
ما ساهم في نزع فتيل تفجير داخلي كان سيضع البلاد على حافة الانهيار.
وفي مواقف مشابهة، تعاملت المؤسسة العسكرية مع استفزازات سياسية محدّدة، مثل فعالية صخرة الروشة، بواقعية حالت دون انفجار الموقف
وأظهرت أن الجيش يدرك حدود دوره وما يمكن أن يترتّب على الانجرار وراء تصفيات سياسية ضيقة.
وحزب الله، ينظر إلى الجيش كشريك لا خصم، وهو عنصر مساعد في تثبيت الاستقرار الوطني.
والرسائل التي وجّهها الحزب إلى الجيش كانت واضحة حيال خطوطه الحمر، بما في ذلك التلميح إلى أن الدفاع عن السلاح يتخذ بعداً عقائدياً «كربلائياً» إذا استدعى الأمر.
وفي المقابل، يُظهر سلوك المؤسسة العسكرية وعياً باستحالة الدخول في أي مواجهة.
وبذلك يجد حزب الله نفسه أمام مهمة مزدوجة: حماية المعادلة الذهبية من محاولات التفكيك، وضمان بقاء الجيش عنصرَ توازنٍ وطنيٍّ.
التحدّي الخامس: الاستحقاق النيابي المقبل
تشكّل الانتخابات النيابية المقبلة تحدياً بالغ الحساسية لحزب الله، فهي ليست مجرد محطة دستورية دورية.
بل اختبار سياسي شامل لوضعه الداخلي وموقعه الوطني بعد الحرب الأخيرة.
والمعادلات التي حكمت انتخابات 2018 و2022 لم تعد قائمة بالقدر نفسه.
فالتحالف مع التيار الوطني الحر تراجع بفعل التباينات والخيبات، والقوى الحليفة الأخرى أعادت تموضعها وفق موازين القوى المستجدّة.
بالتالي، يخوض الحزب هذا الاستحقاق في ظل بيئة سياسية أكثر هشاشة، ما يجعله مضطراً إلى إعادة صياغة تحالفاته وتحسين خطابه الانتخابي بما يراعي التحوّلات الاجتماعية والسياسية
وهنا تكمن أهمية إعادة تقديم صورته بشكل مختلف عبر ضخّ دماء جديدة في كتلته النيابية تعطي حيوية ودينامية يبدو الحزب بأمسّ الحاجة إليهما.
وهدف الانتخابات المقبلة لا يتصل بعدد المقاعد فقط، بل بقدرة الحزب على تأمين غطاء وطني يحول دون عزله.
ما يعزّز الاعتقاد بأن يتعامل الحزب مع هذا الاستحقاق على قاعدة تثبيت الحضور الشعبي في بيئته التقليدية، والعمل على فتح قنوات تواصل مع شرائح أوسع حتى وإن لم تكن بالضرورة جزءاً من تحالف انتخابي مباشر.
وفي هذا السياق، يبدو الحزب مضطراً أن يتبنّى خطاباً أكثر انفتاحاً على الشأن الاقتصادي والهموم المعيشية…
إدراكاً منه بأن الجمهور اللبناني بات يربط السياسة بالقدرة على توفير حلول عملية للأزمات اليومية.
التحدّي السادس: تحوّلات الإقليم والعمق الاستراتيجي
لم يكن العمق الإقليمي مجرد داعم سياسي أو عسكري لحزب الله، بل شكّل على مدى العقود الماضية جزءاً من معادلة بقائه واستمراره.
فسوريا كانت تمثّل خط إمداد استراتيجي وحلقة وصل مع إيران، فيما ساهمت العلاقة مع إيران نفسها في توفير الغطاء السياسي والمالي والعسكري الذي سمح للحزب بتحويل نفسه إلى قوة إقليمية وازنة.
لكنّ التحولات الأخيرة في الإقليم، وتحديداً التبدّل في الوضع السوري، وضعت الحزب أمام تحدّيات غير مسبوقة.
المعادلة التي كانت قائمة منذ حرب تموز 2006 لم تعد ثابتة كما كانت. فسوريا دخلت مرحلة جديدة.
كما أنّ الحوار الإيراني-السعودي وما يحمله من احتمالات، يشكّل بدوره تحدّياً للحزب.
وبهذا المعنى، يمكن قراءة مبادرة الشيخ قاسم تجاه السعودية، كونها تُظهر وعياً بأن المرحلة المقبلة تستدعي مقاربة مختلفة.
فكما تحوّلت العلاقة مع سوريا من خصومة في الثمانينيات إلى تحالف استراتيجي لاحقاً…
قد يُعوَّل على حوار مع الرياض — إن كُتب له النجاح — لإعادة رسم جزء من المشهد الإقليمي بما يخفّف الضغوط.
علماً أن التغوّل الإسرائيلي في المنطقة، وتوسيع دائرة عدوانه، كما حصل مع قطر، يساعدان الحزب في تثبيت سرديته أن «لا أحد بمنأى عن الخطر الإسرائيلي»
ما يمنحه فرصة لإعادة بناء شبكة تفاهمات إقليمية حول أولويات مشتركة.
خاتمة
لقد أظهرت التجربة التاريخية للحزب أنه يمتلك قدرة عالية على التكيّف وتحويل التهديدات إلى فرص
غير أن اللحظة الراهنة تختلف من حيث حجم الضغوط وتعدّد جبهات المواجهة.
ففي الداخل، يُنتظر من الحزب أن يقدّم مقاربة أكثر انفتاحاً على الشأنيْن الوطني والاقتصادي
بينما يحتاج في الإقليم، إلى مرونة مضاعفة لضمان شبكة التحالفات وتفادي العزلة.
وبينهما، يبقى سلاح المقاومة بُعداً غير قابل للتفاوض، لكنه في الوقت نفسه موضوع سجال دائم مع خصومه الذين يسعون إلى تكريسه عنواناً للانقسام.