️ حـمـزة الـخـنـسـا – الأخـبـار
منذ تأسيسها عام 1978، وحتى تحوّلها الجذري بعد عدوان تموز 2006، لم تكن علاقة قوات الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان «اليونيفل»، وخاصة بعض وحداتها البارزة، على نحو حسن مع الناس.
لكنّ الكتيبة الفرنسية تشكّل حالة فريدة ومثيرة للريبة. وبعيداً عن صورة «حافظ السلام» المحايد…
تكشف الوقائع المتراكمة على مدى أكثر من أربعة عقود عن دور فرنسي يتجاوز التفويض الأممي.
ليلامس حدود الاستفزاز، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتنفيذ أجندة تتقاطع بشكل خطير مع مصالح العدو الإسرائيلي.
ما بين اشتباكها مع الأهالي في بلدة ياطر عام 1978، وتصفية نائب المسؤول التنظيمي لحركة «أمل» في صور، حيدر خليل، ومرافقه حسن دهيني، على حاجز لها عند مدخل بلدة العباسية عام 1986.
وصولاً إلى التجاوزات والاحتكاكات التي تورّطت بها قوات التدخل (FCR) التابعة لـ«اليونيفل» بقيادة الكتيبة الفرنسية في مختلف القرى الجنوبية.
والتي ازدادت بكثرة منذ دخول قرار وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في تشرين الثاني 2024 حتى اليوم.
حيث تحوّلت الكتيبة الفرنسية، بفضل موقعها كقوة احتياط للقائد العام وقدراتها النوعية، من مجرد وحدة ضمن قوات دولية إلى أداة ضغط استخباراتية وعسكرية.
إذ لم تكن تحركاتها «المستقلة» على الأرض أخطاءً تكتيكية، بل تطبيقاً لأجندة تهدف إلى كشف ظهر المقاومة، وجمع المعلومات لمصلحة العدو، وتغيير قواعد الاشتباك.
لم تكتفِ فرنسا بالمشاركة التقليدية، بل وضعت ثقلها لتشكيل وقيادة قوة احتياط القائد العام (FCR).
وبحسب ورقة عمل لـ«مركز الاتحاد للأبحاث والتطوير»، فإن هذه الوحدة ليست كباقي الكتائب المُقيّدة بقطاع جغرافي محدّد (القطاع الشرقي أو الغربي)
بل هي قوة النخبة للتدخل السريع مع ترسانة متطوّرة وقدرات نوعية، تخضع مباشرة لسلطة القائد العام لليونيفل.
ومهمتها التحرك في أي بقعة ضمن منطقة العمليات لمواجهة أي طارئ أو دعم أي وحدة أخرى.
هذا الموقع الاستثنائي منح الكتيبة الفرنسية ميزتين أساسيتين: حرية الحركة المطلقة، وطبيعة المهام الاستباقية.
وعلى عكس الكتائب الأخرى التي تحتاج إلى عمليات تنسيق معقّدة للخروج من قطاعها، تمتّعت الـ«FCR» بتفويض مفتوح للتجوّل في كل قرى ووديان الجنوب، من الناقورة إلى شبعا.
وبحسب ورقة العمل، فإن هذه الميزة الهيكلية هي التي تفسّر قدرتها على الظهور بشكل مفاجئ في أماكن غير متوقّعة، بعيداً عن المسارات الروتينية
خصوصاً أن دورها كقوة تدخّل سريع أصبح يعني أن مهامها لم تعد مجرد دوريات مراقبة، بل أصبحت عمليات استباقية ونوعية.
لها أسماء محددة مثل (KEMMEL- MONTERO – CEILLAC)، والتي كان هدفها المعلن «تطهير» المناطق من الذخائر وكشف الأنفاق ومخابئ الأسلحة التابعة للمقاومة.
هذا الدور حوّل الكتيبة الفرنسية من «حافظ سلام» إلى قوة تشبه عمل فرق العصابات الأميركية المعروفة بـ«صائد الجوائز» القائمة على مطاردة من لا تقدر الحكومة عليهم.
وفي حالتنا، صارت القوة الفرنسية تقوم بمهمة ما لا تقدر عليه إسرائيل ضد المقاومة.
لذلك، لم يكن تميُّز الكتيبة الفرنسية في هيكليتها ومهامها فقط، بل في القدرات النوعية التي زُوّدت بها…
والتي تتجاوز بكثير ما تحتاج إليه قوة لحفظ السلام، وتجعلها أقرب إلى وحدة ضاربة استخباراتية وعسكرية متكاملة.
فهي تمتلك سرباً مجهّزاً بمركبات مدرّعة مدولبة خفيفة (LAV) مهمته الأساسية الاستطلاع وجمع المعلومات
ما يفسّر الإصرار على دخول طرقات فرعية وأحياء ضيقة. كما تمتلك القدرة المخصّصة لإزالة مخلّفات الحرب…
والتي استُخدمت، خلافاً للتفويض الأممي، في البحث عن البنى التحتية للمقاومة.
وتمتلك أيضاً منظومة دفاع جوي متطورة (صواريخ ميسترال) ما يثير تساؤلات حول طبيعة التهديدات التي تتوقعها.
ويعطي انطباعاً بأنها تستعد لسيناريوهات قتالية أكثر تعقيداً.
فضلاً عن امتلاكها معدات حديثة، من أجهزة التشويش على المُسيّرات (NEROD) إلى التحديث الأخير لناقلات الجند بآليات(VBCI) الهجومية السريعة
ما يشير إلى توجه نحو دور أكثر هجومية ومرونة، وهو ما يُعدّ «تغييراً للمعادلة الميدانية».
ولضمان عمل هذه القوة بـ«سلاسة وهدوء»، لم تكتفِ فرنسا بالسيطرة على الذراع العملياتية الأهم (FCR)، بل حرصت على شغل منصب مفصلي في هرم القيادة:
رئيس أركان «اليونيفل». وهو المنصب، الذي يشغله جرنال فرنسي منذ عام 2006، والذي يُعتبر العقل المدبّر للعمليات اليومية لجميع قوى وكتائب «اليونيفل» التابعة لـ47 بلداً.
فرئيس الأركان هو المسؤول عن التخطيط والتنسيق، وهو من يملك الوصول الكامل إلى كلّ المعلومات الاستخباراتية التي ترد إلى القيادة.
وجود ضابط فرنسي في هذا الموقع يمنح باريس نفوذاً مركزياً من خلال توجيه العمليات (رسم خطط الدوريات والعمليات الخاصة) والتحكّم بالمعلومات وتجاوز التسلسل الهرمي
ما يساعد في إهمال انقسام الآراء هو أداء هذه القوة، والذي يعزّزه وجود 30 ضابطاً فرنسياً ضمن عديد المقر العام لليونيفل في الناقورة ما يهمّش دور ضباط من جنسيات أخرى.
وبذلك، أعادت فرنسا تشكيل دورها في جنوب لبنان، إذ لم تعد مجرد مشارك، بل أصبحت القوة الأكثر نفوذاً وقدرة على الحركة
وهو ما مهّد الطريق للمرحلة التالية من «التجاوزات» الممنهجة التي أصبحت السمة الأبرز لسلوكها على الأرض.
ولإحكام السيطرة الفرنسية على المفاصل الحيوية لليونيفل، يتولى موظف فرنسي آخر، منصب ضابط الاتصال الرئيسي مع جيش الاحتلال.
هذا المنصب، الذي قد يبدو إدارياً أو دبلوماسياً، هو في الحقيقة أحد أكثر المواقع حساسية وخطورة
إذ إن هذه القناة الدبلوماسية تحوّلت إلى أداة تنسيق استخباراتية، تخدم الأجندة الفرنسية – الإسرائيلية…
كونها بوابة لتبادل المعلومات ونقل المعطيات الموجودة لدى «اليونيفل» إلى العدو فضلاً عن تلقّي «طلبات» استخباراتية من العدو…
مثل «التحقّق» من منطقة معينة أو «مراقبة» نشاط ما، وتحويل مقر قيادة «اليونيفل» إلى مركز استخبارات.
مع العلم أن هذا المنصب يتيح لصاحبه التحكم في «رواية» الأحداث وتوجيهها
إذ إنه مَن يصيغ ويؤطر «الرواية الرسمية» للحوادث التي تقع على الحدود. وبحكم علاقته مع نظرائه الإسرائيليين تُخلق مساحة لـ«تفاهمات سرية» وقنوات خلفية تتجاوز البروتوكولات
ما يسمح لإسرائيل، التي تفضّل التعامل مباشرة مع الفرنسيين داخل «اليونيفل»
وتجاهل القائد العام أحياناً، بتمرير رسائل وتنسيقات لا تمر عبر القنوات الرسمية الكاملة.
بعد أن رسّخت الكتيبة الفرنسية موقعها كقوة ضاربة داخل «اليونيفل»، بدأت بترجمة هذا النفوذ إلى ممارسات ميدانية مثيرة للجدل، تحوّلت مع مرور الوقت إلى نمط سلوكي ممنهج.
لم تعد الاحتكاكات مع الأهالي حوادث معزولة، بل أصبحت نتيجة حتمية لاستراتيجية فرنسية تقوم على فرض «حرية الحركة» كغطاء قانوني لأنشطة استخباراتية
متجاهلة للجيش اللبناني بوصفه الشريك الأساسي على الأرض، علماً أن التعديلات كانت فُرضت بضغط أميركي – إسرائيلي على قرار تجديد ولاية القوات الدولية في عام 2022 (القرار 2650)
وهي السلاح القانوني الذي استخدمته الكتيبة الفرنسية لتبرير تجاوزاتها.
في النتيجة، يصبّ مجمل السلوك الممنهج للكتيبة الفرنسية في جنوب لبنان بشكل مباشر في مصلحة العدو الإسرائيلي.
فمن خلال المنظومة المتكاملة التي بنَتها داخل «اليونيفل»، تساهم فرنسا بشكل يومي وفعّال في بناء وتحديث «بنك الأهداف» الإسرائيلي من الأرض وعبر الجو…
من خلال العمل على التأكيد على المواقع الحساسة التي يعجز العدو عن الوصول إليها، وجمع المعلومات البشرية (HUMINT)، ورسم خرائط الانتشار.
وفي إطار اختبارها لجاهزية المقاومة وردود فعلها، فإن دورياتها «الاستفزازية» غير المنسّقة مع الجيش باتت أشبه بـ«بالون اختبار» منخفض التكلفة للعدو
إذ يمكن من خلالها مراقبة مؤشّرات حيوية للمقاومة مثل سرعة الاستجابة وطبيعة الرد.