المطروح أسوأ من 17 أيار: لبنان يُساق إلى الذبح

في منتصف هذا الشهر، صرّح رئيس الجمهورية جوزيف عون بأنْ «لا بدّ من التفاوض مع إسرائيل لحل المشاكل وتجنّب الدمار»، في موقف لم يكن «يتيماً»،. إذ سبقته وتلته مواقف مشابهة لجهات لبنانية، بعضها كان حليفاً للمقاومة قبل حرب الإسناد على غزة. هؤلاء جميعاً، ممن انخرطوا في الحلف الأميركي – السعودي، سلّموا بعد عامين من الحرب الأكثر دموية في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، بأن الحروب تقاس بميزان الدمار لا بمن خرج منتصراً في ميدان الشرعية والوعي. وفيما تسوّق أميركا وحلفاؤها في الشرق الأوسط للسلام على أنه استجابة ضرورية لمتغيّرات المرحلة، ينخرط هؤلاء في عملية التسويق نفسها، معيدين النقاش حول هوية البلد إلى الواجهة، في محاولة لإحياء طروحات خارج السرديات السياسية التقليدية، ومنحها ما فقدته طويلاً: شرعيتها الوطنية.
ومنذ توقّف الحرب صورياً في 27 تشرين الثاني الماضي، برزت رسالة سياسية واضحة: لا مجال للتراخي، فقد حان وقت الحسم الداخلي. فحزب الله هُزم، واغتيل قادته، ودُمّرت قدراته العسكرية وهو في حالة انهيار. وحان وقت المعركة الداخلية للإجهاز على ما تبقّى منه.
وفي الأيام الأولى لما بعد الحرب كان الهدف واضحاً: إنتاج سلطة تنفيذية تستجيب للوصاية الأميركية، بجدول أعمال يبدأ بنزع سلاح المقاومة. وفعلاً، جاءت النتائج السياسية الأولى سريعاً: انتخاب عون، وتسمية نواف سلام لتشكيل الحكومة، ثم سلسلة قرارات استهدفت تقويض شرعية المقاومة، ولا سيما في جلستَيْ 5 و7 آب الشهيرتين.
واستطاعت الآلة الإعلامية المُكلّفة بخدمة هذا المشروع أن تُبقي كلّ الملفات الأخرى في الهامش، وكأن ليس في لبنان سوى سلاح حزب الله الذي يجب نزعُه. بات كل شيء مرتبطاً بهذا الهدف: السياسة، الأمن، الخطاب العام، وحتى صورة على صخرة!
تدريجياً، انكشفت الأهداف الحقيقية: ليس حزب الله وحده المُستهدف، بل لبنان ككيان، شأنه شأن سوريا ودول أخرى يرى فيها العدو تهديداً يجب تحييده ولو أدّى ذلك إلى خرابها. وفي الداخل، هناك مسؤولون وقادة تراودهم الأحلام بالفيدرالية ودويلة الحوض الخامس، ويدركون أبعاد هذا المشروع ويعملون لتحقيقه، ويرسمون لـِ«لبنانهم» كانتوناً يمتدّ من كفرشيما إلى المدفون، وهم واعون تماماً لما تصبو إليه إسرائيل من المفاوضات المطلوبة: شرعنة الاحتلال، اقتطاع أجزاء من الوطن، وتحويله إلى جزر طائفية متقاتلة.
ومن يتتبّع تصريحات المسؤولين الأميركيين، وما ينقله الموفدون الأجانب والعرب إلى بيروت بشأن «المفاوضات المطلوبة» مع العدو، فلن يجد صعوبة في إدراك أن المقصود هذه المرة مختلف تماماً عن مفاوضات الماضي، من اتفاق الهدنة عام 1949 مروراً وصولاً إلى اتفاق الـ 1701 عام 2006. وإذا وسّع المرء تدقيقه ليشمل ما يُتداول بشأن المفاوضات مع سوريا، يتضح أن النقاش لا يقتصر على بلد واحد؛ فالمطلوب من سوريا مطلوبٌ من لبنان أيضاً.
مشكلة العدو الإسرائيلي بعد كل ما حصل أنه اكتشف أن حربه لم تحقّق مكاسب استراتيجية، بل إنجازات سرعان ما تبيّن أنها عادت بنتائج عكسية. سوريا، على سبيل المثال، لا تزال عصيّة على التطبيع أو على القبول بأي ترتيبات أمنية، ولا علاقة للنظام الجديد بالأمر، إذ إنه مجرّد نسخة مكرّرة عن السلطة اللبنانية الحالية الخاضعة، ولا تُميّز المُسيّرات بين سماء الشام وسماء بيروت. لكنّ الوقائع التي نشأت بعد سقوط النظام السابق، بما فيها تعزيز النفوذ التركي وتمدّده، فضلاً عن نشاط الحركات الإسلامية غير التابعة للجولاني، والتي تعتبرها إسرائيل تهديداً محتملاً لها، رفعت لدى العدو منسوب الشعور بالخطر.

جيداً هلوسات

خصوم حزب الله

حول هزيمته

وتعلم أن الحرب على الحزب لم تُنهِه

 دفعه إلى طلب الغطاء الشيعي عبر الرئيس بري، إذ لا يستطيع صياغة المسار وحده، وإلا كان مصيره كمصير اتفاق 17 أيار. اللافت أن الرئيس بري سارع بدوره إلى نسف هذا الطرح، كاشفاً أن مسار التفاوض المُقترَح سقط نتيجة رفض تل أبيب التجاوب مع المقترح الأميركي، مؤكّداً أن المسار الوحيد حالياً هو مسار «الميكانيزم».
أمّا خارجياً، فالضغط يُمارس على مستويين: الأول سياسي، يقوده المبعوثون الأميركيون، من بينهم مورغان أورتاغوس التي تصل إلى بيروت غداً قادمة من إسرائيل للمطالبة بتوسيع لجنة «الميكانيزم» لتضم سياسيين لبنانيين وإسرائيليين، فتتحوّل المفاوضات إلى مباشرة كما يحصل في سوريا. والمستوى الثاني هو التهديد بعصا النار الإسرائيلية، سواء علناً أو عبر وسطاء. قبل أيام، صرّح أحد الأمنيين العرب أمام ضباط الأجهزة الأمنية بأن لبنان يوشك على الانزلاق إلى حرب طاحنة.
قد تكون الحرب المحتملة، بالنسبة إلى إسرائيل وشركائها في اتفاقيات أبراهام، الوسيلة الوحيدة لإجبار لبنان على اتفاق مُذِلّ واستسلام كامل، من دون أي ضمانات لالتزامها بما قد تتعهّد به، استناداً إلى تجارب التفاوض السابقة. أما بالنسبة إلى آخرين، فهي السبيل الوحيد للخروج من مشهد الاستنزاف الراهن، إذ إن إسرائيل لن ترتدع إلا حين تبدأ بتكبّد الخسائر مجدّداً.

 

أبرز محطات التفاوض بين لبنان وكيان العدو

 

اتفاقية الهدنة، عام 1949: مع نهاية الحرب العربية – الإسرائيلية في فلسطين عام 1948، وعقد اتفاقات هدنة بين الدول العربية المعنية وإسرائيل لتحديد خطوط الهدنة، كان لبنان طرفاً في تلك التفاهمات. وقبل توقيع الهدنة، اندلعت مواجهات شرسة بين القوات العربية والإسرائيلية، شارك فيها الجيش اللبناني، أبرزها معركة المالكية. وبهدف وقف العدوان، جرت مفاوضات الهدنة في جزيرة رودس، وتُوّجت بتوقيع لبنان وإسرائيل الاتفاقية في الناقورة عام 1949.
تُعد هذه الاتفاقية الأولى التي نصّت على وقف إطلاق النار وتحديد خط الهدنة كفاصل عسكري مؤقّت بين لبنان وإسرائيل، من دون اعتباره حدوداً سياسية نهائية. بطبيعة الحال، لم تنفّذ إسرائيل بنود الاتفاق بشكل كامل، ولم تنسحب إلى الخط المُتفق عليه. عملياً، يرى بعض السياسيين اللبنانيين في هذا الاتفاق مخرجاً للأزمات الحالية، مثل الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذي يدعو إلى العودة إليه كحل للأزمة.
– اجتياح الـ78 والقرار 425: أدّى الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان أو ما يُعرف بـ«عملية الليطاني» عام 1978، إلى إصدار مجلس الأمن الدولي القرارين 425 و426 اللذين أسفرا عن إنشاء قوات الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان (اليونيفل). ودعا القرار 425 إلى انسحاب فوري لإسرائيل وأقرّ إنشاء اليونيفل لتأكيد انسحاب القوات الإسرائيلية واستعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة الحكومة اللبنانية.
– اتفاق 17 أيار 1983: هو الاتفاق السياسي الرسمي الوحيد الذي وُقّع بين بيروت وتل أبيب وفشل عملياً. جاء هذا الاتفاق في ظرف سياسي صعب على لبنان، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وما أسفر عنه من انقسام سياسي كبير في البلد.
نصّ الاتفاق الذي رعته أميركا على إنهاء حالة الحرب، وتأليف لجنة اتصال بإشراف الولايات المتحدة الأميركية على تنفيذ الاتفاق. وربطت إسرائيل انسحابها بخروج القوات السورية ومنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وعدم نشر أسلحة ثقيلة في الجنوب. أدّى الاتفاق إلى نشوب اقتتال داخلي في لبنان وانقسام المشهد السياسي بين الحكومة والرئيس أمين الجميل من جهة، وجبهة الإنقاذ الوطني وسوريا من جهة ثانية. وبعد أقل من عام انهار الاتفاق وأُلغي عام 1984 بقرار من مجلس النواب اللبناني.
– تفاهم نيسان 1996: هو عام لا يُنسى من ذاكرة اللبنانيين، عندما شنّت إسرائيل في نيسان 1996 عملية «عناقيد الغضب»، وأدّى القصف الإسرائيلي على مقر للأمم المتحدة في قانا، إلى استشهاد أكثر من 100 مدني، ما أثار موجة استنكار دولية، ودفع الولايات المتحدة وفرنسا إلى رعاية الاتفاق الذي عُرف بـ«تفاهم نيسان». لم يمنع التفاهم المواجهات العسكرية، وإنما اعتمد على آليتين. الآلية الأمنية، تمثّلت في لجنة مراقبة التنفيذ، بوجود فرنسي وأميركي وسوري. والآلية الاقتصادية، تمثّلت في المجموعة الاستشارية برئاسة أميركا، الهادفة إلى ما سُمّي «تلبية إعادة إعمار لبنان».
– القرار 1701: بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان وحرب الـ 33 يوماً عام 2006، تدخّلت الأمم المتحدة لوقف الحرب عبر إصدار القرار الدولي الرقم 1701 الذي نصّ على وقف الأعمال العدائية بين الطرفين، وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب، وتوسيع مهمة قوات الأمم المتحدة لمراقبة الوضع على الحدود. وبناءً على هذا القرار ، تمّ رسم «الخط الأزرق»، إلا أنّ عدة نقاط بقيت عالقة، ويصرّ لبنان على اعتبارها مناطق محتلة ويطالب بتحريرها.
– اتفاق ترسيم الحدود البحرية، عام 2022: عاد هذا الاتفاق إلى قلب الجدل السياسي اليوم بقوة، بعدما أعاد رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون التذكير به، مؤكّداً أن الدولة اللبنانية سبق أن تفاوضت مع إسرائيل برعاية أميركية وأممية، ما أسفر عن اتفاق لترسيم الحدود البحرية أُعلن عنه من مقر قيادة اليونيفل في الناقورة.
وتساءل عون: «ما الذي يمنع تكرار الأمر نفسه لإيجاد حلول للمشاكل العالقة، خصوصاً في ظل عدم تحقيق الحرب لأيّ نتيجة؟»، في وقت أكّد فيه لبنان على التفاوض غير المباشر، وفق ما صدر من توضيحات رئاسة الجمهورية في هذا الإطار. وتوصّل لبنان وإسرائيل في 27 تشرين الأول 2022 إلى اتفاق لترسيم حدودهما البحرية، بوساطة أميركية، لحل النزاع القائم بين البلدين وفتح المجال أمام استغلال الموارد الطبيعية في المنطقة المُتنازع عليها. كما تضمّن الاتفاق ترتيبات مالية بين إسرائيل ومشغّل البلوك 9 لضمان حقوق الطرفين في الموارد المُكتشفة.
– اتفاق وقف إطلاق النار، عام 2024: أُعلن عن اتفاق 27 تشرين الثاني 2024، بعد حرب إسرائيلية دامية على لبنان، تدخّلت على إثْرها الولايات المتحدة وفرنسا للتوسط في وقف إطلاق النار. ورغم التزام الجانب اللبناني بالاتفاق، إلا أن إسرائيل تواصل يومياً خرقه من خلال اعتداءات تؤدّي إلى سقوط الضحايا وتدمير الممتلكات والأرزاق. في المقابل، يطالب لبنان المجتمع الدولي بممارسة الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها والانسحاب من النقاط المحتلة في الجنوب اللبناني.

شاهد أيضاً

قاسم يعلن اليوم موقف حزب الله… وقائد الجيش في باريس: بلبلة في القاهرة نتيجة كلام وزير خارجيتها في بيروت

️ صحيفة الأخبار بعد عام على وقف إطلاق النار في لبنان، تُظهِر الأحداث أنه اتفاق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *