في منتصف هذا الشهر، صرّح رئيس الجمهورية جوزيف عون بأنْ «لا بدّ من التفاوض مع إسرائيل لحل المشاكل وتجنّب الدمار»، في موقف لم يكن «يتيماً»،. إذ سبقته وتلته مواقف مشابهة لجهات لبنانية، بعضها كان حليفاً للمقاومة قبل حرب الإسناد على غزة. هؤلاء جميعاً، ممن انخرطوا في الحلف الأميركي – السعودي، سلّموا بعد عامين من الحرب الأكثر دموية في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، بأن الحروب تقاس بميزان الدمار لا بمن خرج منتصراً في ميدان الشرعية والوعي. وفيما تسوّق أميركا وحلفاؤها في الشرق الأوسط للسلام على أنه استجابة ضرورية لمتغيّرات المرحلة، ينخرط هؤلاء في عملية التسويق نفسها، معيدين النقاش حول هوية البلد إلى الواجهة، في محاولة لإحياء طروحات خارج السرديات السياسية التقليدية، ومنحها ما فقدته طويلاً: شرعيتها الوطنية.
ومنذ توقّف الحرب صورياً في 27 تشرين الثاني الماضي، برزت رسالة سياسية واضحة: لا مجال للتراخي، فقد حان وقت الحسم الداخلي. فحزب الله هُزم، واغتيل قادته، ودُمّرت قدراته العسكرية وهو في حالة انهيار. وحان وقت المعركة الداخلية للإجهاز على ما تبقّى منه.
وفي الأيام الأولى لما بعد الحرب كان الهدف واضحاً: إنتاج سلطة تنفيذية تستجيب للوصاية الأميركية، بجدول أعمال يبدأ بنزع سلاح المقاومة. وفعلاً، جاءت النتائج السياسية الأولى سريعاً: انتخاب عون، وتسمية نواف سلام لتشكيل الحكومة، ثم سلسلة قرارات استهدفت تقويض شرعية المقاومة، ولا سيما في جلستَيْ 5 و7 آب الشهيرتين.
واستطاعت الآلة الإعلامية المُكلّفة بخدمة هذا المشروع أن تُبقي كلّ الملفات الأخرى في الهامش، وكأن ليس في لبنان سوى سلاح حزب الله الذي يجب نزعُه. بات كل شيء مرتبطاً بهذا الهدف: السياسة، الأمن، الخطاب العام، وحتى صورة على صخرة!
تدريجياً، انكشفت الأهداف الحقيقية: ليس حزب الله وحده المُستهدف، بل لبنان ككيان، شأنه شأن سوريا ودول أخرى يرى فيها العدو تهديداً يجب تحييده ولو أدّى ذلك إلى خرابها. وفي الداخل، هناك مسؤولون وقادة تراودهم الأحلام بالفيدرالية ودويلة الحوض الخامس، ويدركون أبعاد هذا المشروع ويعملون لتحقيقه، ويرسمون لـِ«لبنانهم» كانتوناً يمتدّ من كفرشيما إلى المدفون، وهم واعون تماماً لما تصبو إليه إسرائيل من المفاوضات المطلوبة: شرعنة الاحتلال، اقتطاع أجزاء من الوطن، وتحويله إلى جزر طائفية متقاتلة.
ومن يتتبّع تصريحات المسؤولين الأميركيين، وما ينقله الموفدون الأجانب والعرب إلى بيروت بشأن «المفاوضات المطلوبة» مع العدو، فلن يجد صعوبة في إدراك أن المقصود هذه المرة مختلف تماماً عن مفاوضات الماضي، من اتفاق الهدنة عام 1949 مروراً وصولاً إلى اتفاق الـ 1701 عام 2006. وإذا وسّع المرء تدقيقه ليشمل ما يُتداول بشأن المفاوضات مع سوريا، يتضح أن النقاش لا يقتصر على بلد واحد؛ فالمطلوب من سوريا مطلوبٌ من لبنان أيضاً.
مشكلة العدو الإسرائيلي بعد كل ما حصل أنه اكتشف أن حربه لم تحقّق مكاسب استراتيجية، بل إنجازات سرعان ما تبيّن أنها عادت بنتائج عكسية. سوريا، على سبيل المثال، لا تزال عصيّة على التطبيع أو على القبول بأي ترتيبات أمنية، ولا علاقة للنظام الجديد بالأمر، إذ إنه مجرّد نسخة مكرّرة عن السلطة اللبنانية الحالية الخاضعة، ولا تُميّز المُسيّرات بين سماء الشام وسماء بيروت. لكنّ الوقائع التي نشأت بعد سقوط النظام السابق، بما فيها تعزيز النفوذ التركي وتمدّده، فضلاً عن نشاط الحركات الإسلامية غير التابعة للجولاني، والتي تعتبرها إسرائيل تهديداً محتملاً لها، رفعت لدى العدو منسوب الشعور بالخطر.
جيداً هلوسات
خصوم حزب الله
حول هزيمته
وتعلم أن الحرب على الحزب لم تُنهِه
دفعه إلى طلب الغطاء الشيعي عبر الرئيس بري، إذ لا يستطيع صياغة المسار وحده، وإلا كان مصيره كمصير اتفاق 17 أيار. اللافت أن الرئيس بري سارع بدوره إلى نسف هذا الطرح، كاشفاً أن مسار التفاوض المُقترَح سقط نتيجة رفض تل أبيب التجاوب مع المقترح الأميركي، مؤكّداً أن المسار الوحيد حالياً هو مسار «الميكانيزم».
أمّا خارجياً، فالضغط يُمارس على مستويين: الأول سياسي، يقوده المبعوثون الأميركيون، من بينهم مورغان أورتاغوس التي تصل إلى بيروت غداً قادمة من إسرائيل للمطالبة بتوسيع لجنة «الميكانيزم» لتضم سياسيين لبنانيين وإسرائيليين، فتتحوّل المفاوضات إلى مباشرة كما يحصل في سوريا. والمستوى الثاني هو التهديد بعصا النار الإسرائيلية، سواء علناً أو عبر وسطاء. قبل أيام، صرّح أحد الأمنيين العرب أمام ضباط الأجهزة الأمنية بأن لبنان يوشك على الانزلاق إلى حرب طاحنة.
قد تكون الحرب المحتملة، بالنسبة إلى إسرائيل وشركائها في اتفاقيات أبراهام، الوسيلة الوحيدة لإجبار لبنان على اتفاق مُذِلّ واستسلام كامل، من دون أي ضمانات لالتزامها بما قد تتعهّد به، استناداً إلى تجارب التفاوض السابقة. أما بالنسبة إلى آخرين، فهي السبيل الوحيد للخروج من مشهد الاستنزاف الراهن، إذ إن إسرائيل لن ترتدع إلا حين تبدأ بتكبّد الخسائر مجدّداً.
أبرز محطات التفاوض بين لبنان وكيان العدو
الرضوان آلأخبآࢪية اخر الاخبار المحلية والدولية