فضيحة جديدة تُضاف إلى سجلّ الفوضى في بلدية بيروت، وتكشف حجم الانهيار الإداري والمالي في مؤسسةٍ يُفترض أن تكون واجهة العاصمة ورمز انتظامها. فبينما يغرق المجلس البلدي في مناكفاتٍ عقيمة وشللٍ كامل، سُحب مبلغ 330 ألف دولار نقداً من خزينة البلدية من دون أي مستند رسمي أو قرار قانوني، وكأنّ المال العام صندوق خاص يُفتح ويُقفل على أهواء بعض الموظفين. والأدهى أنّ الاعتراف بسحب المبلغ لم يُقابل بتحقيقٍ قضائيّ أو إجراءٍ رادع، بل جرى التهرّب منه بتبريراتٍ عبثية من نوع «خدمة الضباط» أو «الاحتفاظ بالأموال للحرب»! هكذا تتكرّس في بيروت صورة مدينةٍ تُدار بالفوضى، حيث الفساد يُحمى بالسياسة، والمساءلة تُستبدل بالتبرير، والمخالف يُكافأ بدل أن يُحاسب.
في وقتٍ يغرق فيه مجلس بلدية بيروت في جدالاتٍ عقيمة ومناكفاتٍ بليدة، من دون إنجازٍ يُذكر، يبدو أنّ «الشغل ماشي» في إدارة البلدية، ولم يتأثر بتبدّل تركيبة المجلس، ما يؤكد أنّ «السيستم» الإداري الراسخ في البلدية عصيّ على التفكّك، طالما أن الرقابة غائبة والمحاسبة معدومة، وأنّ كل فضيحة يمكن أن تُدارى و«تُمسح بالذقون» على الطريقة اللبنانية، فيما تتزايد جرأة بعض الموظفين في ارتكاب المخالفات، مطمئنين إلى الحماية السياسية والإدارية التي يتمتعون بها.
رغم ذلك، وفيما يستمر مسلسل الفضائح المالية داخل البلدية بلا توقف، يرفض أعضاء حاليون في المجلس البلدي أن يكون نهج الفوضى والخلل الإداري قدراً دائماً، فاختاروا خوض معركة الإصلاح ولو وحيدين، وكان لهم الدور الأبرز في كشف فضيحة صرف 330 ألف دولار من دون أي قرارٍ للمجلس أو إيصالاتٍ رسمية، في فضيحة حاول بعض المسؤولين طمسها… ولا يزالون يحاولون.
بداية الخيط
بدأت القصّة حين أُدرج على جدول أعمال الجلسة الأخيرة للمجلس البلدي، التي عُقدت الأربعاء الماضي، بندٌ يتعلّق بقرار مجلس شورى الدولة القاضي بإلزام البلدية صرف نحو 330 ألف دولار لـ 20 ضابطاً في فوج إطفاء بيروت، تعويضاً عن قسائم المحروقات التي حُرموا منها لسنوات بعدما أوقف المحافظ السابق زياد شبيب منح هذه القسائم للضباط، خلافاً للقانون، قبل أن يعيد المحافظ الحالي مروان عبود العمل بها. إثر ذلك، قدّم 20 ضابطاً طعناً أمام مجلس شورى الدولة الذي أقرّ قبل أشهر بأحقّية مطلبهم، وألزم البلدية بدفع التعويضات المقدّرة بنحو 16 ألف دولار لكلّ ضابط.
غير أنّ المفاجأة وقعت خلال الجلسة، حين كشف أحد الأعضاء أنّ لديه معلومات مؤكّدة تفيد بأنّ الضباط المعنيين قبضوا أموالهم فعلاً قبل صدور موافقة المجلس البلدي، وأنهم تسلّموا 13 ألف دولار فقط بدلاً من 16 ألفاً، ومن دون أي مستندٍ رسمي. وكشف اعتراض أحد الضباط الذين لم يتقدّموا بالطعن، مطالباً بمعاملته بالمثل مع زملائه، عن واحدة من أكبر الفضائح الإدارية والمالية في البلدية.
ورغم تأكيد العضو البلدي للمعلومات التي لديه، أصرّ رئيس البلدية إبراهيم زيدان على أنّ مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله، قائلاً: «لا أريد اختراع ملفات، إمّا أن تأتوا بالبراهين أو توافقوا على البند».
تتزايد جرأة بعض الموظفين في
ارتكاب المخالفات مطمئنين إلى
الحماية السياسية والإدارية التي يتمتعون بها
إلا أنّ كلام العضو أثار الشك لدى عددٍ من زملائه الذين رفضوا تمرير البند قبل التحقق من الواقعة. وبعد انتهاء الجلسة، توجّه هؤلاء إلى مكتب المحافظ الذي أنكر بدوره أن يكون الضباط قد قبضوا مستحقاتهم المالية، مؤكداً أنّ الموظف المكلّف باستصدار الإيصالات الرسمية نفى إصدار أي إيصال من هذا النوع. وبعدما أصرّ الأعضاء على التدقيق، بادر المحافظ إلى إجراء سلسلة اتصالات مباشرة مع الضباط المعنيين في فوج الإطفاء، فكانت المفاجأة أنّ بعضهم أقرّ بتقاضي الأموال، فيما نفى آخرون الأمر. مع ذلك، تمسّك عبود بالنفي، مستنداً إلى «ثقته» بالموظّف خ. أ. م. الذي وصفه بأنه «أمين على أموال خزنة البلدية».
وكاد الأمر أن يُطوى، خصوصاً بعدما بدأ الموظّف المعني يستهزئ بمحاولات التدقيق قائلاً: «حاكموني، عاقبوني، شو بدكم؟». غير أن تهديد أحد أعضاء المجلس البلدي باللجوء إلى النيابة العامة المالية لتتولى التحقيق بنفسها قلب المعادلة تماماً.
إذ اعترف الموظف بأنه «أخطأ»، مقرّاً بأنه سحب مبلغ 330 ألف دولار من خزنة البلدية من دون أي مستند رسمي أو قرار من المجلس البلدي أو علم المحافظ، مبرراً فعلته بأنها كانت بدافع «التعاطف مع الضباط» لتسيير أمورهم. غير أنّه لم يُقدّم تفسيراً مقنعاً لسبب خفض المبلغ من 16 إلى 13 ألف دولار لكل ضابط، وسط شبهاتٍ أثارها بعض الأعضاء عن احتمال وجود صفقة مالية غير واضحة المعالم، شبّهها أحدهم بـ«شراء الدين».
المحافظ يبرّر والملف يُطوى
الرضوان آلأخبآࢪية اخر الاخبار المحلية والدولية